تاريخ الإلحاد

موقع | almanteqy.com

جاري تحميل المحتوى . . . الرجاء الانتظار

قائمة الأقسام

تاريخ الإلحاد

الشيخ محمد ناصر 27/05/2018 3876

في البداية أرجوا أن تكون هذه المحاضرة مُفيدة، حيثُ تُقدم شيئاً في سبيل مُعالجة هذه الظاهرة التي يمكن القول عنها أنها تحتل على شيئاً من التعقيد، كما سوف يظهر خلال هذا اللقاء إن شاء الله.

 

بدايًة، لابُد من القول بأن فهم الظاهرة الإلحادية الحديثة لا يُمكن أن يتم كما ينبغي إلا في طول فهم المنظومة المادية التي يشكل الإلحاد ركيزتها الأولى، فالإلحاد ليس ظاهرة معلقة، وإنما هو ركيزة ومنطلق لمنظومة متكاملة جاء لأجلها ويمتد معها في جميع المسارات، حيث أن ملاحظة الإلحاد كركيزة لقيامة المنظومة المادية في المجتمع البشري يضيء على نقطة أساسية وهي أن الإلحاد لا يتوخى رفض أصل الوجود الإلهي بقدر ما يتوخى رفض العلاقة التدبيرية لهذا الإله بالكون والإنسان.

 

لذلك في مقام من مقامات الجدل ومقام من مقام الحوار مع المُلحدين، لا يجد المُلحد وعلى رأسهم "ريتشارد دوكنز" و"ستراوس" وأيضاً العديد من العلماء الفيزيائيين وغيرهم،لا يجدون حرجاً بالقول بأنهم لا يمنعون أن يكون هذا العالم كله معلول أو أن خلفه إلهاً، ولكن لا تقولوا لنا بأن هذا الإله يتدخل في هذا الكون وأنه يسمع صلواتنا، ولا يقول المسيحيون بأن المسيح قد قام بالتضحية لأجلنا، أي لا تقوموا بهذه السلسة من الاستنتاجات وهذه السلسلة من الترتيبات، فمصبُ النظر على نفي العلاقة التدبيرية لهذا الإله للكون والإنسان، وليس الجُهد المصبوب على رفض أصل الوجود إلا لأنه يُلغي أصل الكلام عن وجود علاقة تدبيرية، أي يلغي أي دور سلطوي أو عنائي للإله في الحياة البشرية، ولأجل ذلك تجد أن الظاهرة الإلحادية تتميز بأمرين:

 

الأول: مُهاجمة الدين، سواء في عقائده وتشريعاته أو في ممارسة أتباعه، والغرض من هذه المهاجمة إذا تلاحظ هو إبراز الدين على الطرف المضاد للغايات الإنسانية للمعرفة والسلوك، "إذا تٌريد الحقيقة؟ فالدين لا يعطيك إياها"، "تريد السعادة؟ فالدين لا يعطيك إياها".

 

الثاني: تمجيد التطور التي تتمتع به البشرية، واعتباره نتيجة لسيادة المنظومة المادية على الرؤى المعرفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية والعلمية والثقافية والفنية، فالملحدون يعتبروا أنفسهم أباء هذه الحضارة، بحيث أنها تعتبر نفسها الأساس لتطور هذه الرؤى والراعية لها، وتقوم بمحاكمة مضمون الدين على أساس مبادئها ومضامينها كما سوف يتبين فيما بعد.

 

ولكن هنا قد يسأل الإنسان: ما علاقة الإلحاد والماديين بهذه الرؤى التي تحكُم هذا الواقع المُعاصر الذي نعيشُ فيه؟ كيف تأتى للإلحاد أن يُقدم نفسه كمِظلة لكل التطور الحالي؟ ولماذا تأتى له وأمكنه أن ينتقد الدين؟ هل هو مجرد افتراء، أو سُوء فهم، أم هناك مُشكلة؟ هناك مُشكلة أخرى لابد أن يتم الإضاءة عليها. ما هي حقيقة المسألة؟

حتى نفهم كل ذلك، ونعرف السبب الحقيقي الكامن وراءه، وحتى نفهم كيفية تطور الأمر حتى وصل إلى مرحلة المُجاهرة الحادة بضرورة تخليص المجتمع والفرد من الارتباط والتأثير الديني، وليس فقط تخليص السياسة والاقتصاد والعقل والعلم والقانون الذي فُرغ عنه تقريباً منذ بداية القرن التاسع عشر، بل حتى نفهم ذلك وتمهيداً للعثور على مركز المُشكلة الأساسي، لابد أن نرجع إلى الوقت الذي بدأ فيه الإلحاد يتحول من مُجرد ظاهرة فردية أو جمعية خاصة إلى حالة مجتمعية. لماذا يجب ذلك؟ سوف نبين السبب في ذلك من خلال البحث.

 

ولأنه أيضاً بالرجوع إلى ما لدينا من التاريخ المكتوب لا نجد الإلحاد إلا كحالة فردية تبناها وجهر بها فلان وفلان في مختلف الأمم التي كان لها ألهتها الخاصة، سواءً في اليونان أو في الرومان أو المسيحية أو اليهودية أو الإسلام، تجد دائماً يوجد أفراد قاموا بتبني رفض الاتجاه الديني الذي عليه عامة الناس، وأقصى حد من الانتشار والتعميم والتنظيم الذي كانت تلقاه الحالة الإلحادية لم يكن تحت عُنوان الإلحاد بشكل خاص، بل كان تحت عُنوان "المذهب الشكي المتطرف في عملية المعرفة"، ولذلك يُمكن اعتباره كحالة أكثر عُمومية، وانتشاراً للموقف الإلحادي بدأً من الصين والهند ووصولاً إلى اليونان والرومان، لأن المذهب الشكي المتطرف والمُعتدل أيضاً موجود في كل الأمم، والصوفيين موجودين في كل الأمم -وهذا موضوع أيضاً من المثير بحثه لأنه تتكشف فيه الكثير من الأمور- على كل حال، المذهب الشكي المتطرف باعتباره يرفض ويمنع على نحو الحُكم إمكان قيام معرفة على الأقل في ما هو غير تجريدي وغير حسي، كما هو معروف عن "سيكستوس إمبيريكوس" في الرومان، و" بروتاغوراس " في اليونان، في قباله يوجد المذهب الشكي المُعتدل المشهور عن "بيرون"، ويمكن أن ينسب إليه "مونتاني" في الغرب حتى "باسكال" هم كانوا مؤمنين ولكن هذا الشك المعتدل لا يحكم بامتناع المعرفة، وإنما يقول أنا لا أعرف، وغالباً ما يتجهون صوب العمل بالمشهور والأخذ بدين الناس (أي مشهورات الناس)، بخلاف الأول.

 

بالجملة إن الظاهرة الإلحادية كانت مقصُورة تاريخياً على طبقة مُعينة من الناس، ولم يكُن لها عِلاقة بعامة الناس في الجملة طبعاً، بل كانت فقط في مواجهة أئمة تلك الأمم ومُتكلميها ومُفكريها، ولم يكُن لها ذاك النشاط الاجتماعي ولا الأدوات المناسبة أصلاً والحُجج المؤثرة لتجعل من الإلحاد والرؤية المادية ظاهرة مجتمعية مُتفشية يتبناها عُموم الناس. لماذا لم تكُن بهذا النحو؟ لأن الأرضية غير مُمهدة، والأدوات غير جاهزة.

 

يرجع محدودية الظاهرة الإلحادية التاريخية إلى سببين:

السبب الأول: هو نظري فكري، ويتمثل بعدم قابلية الأسباب النظرية المُعتمدة من قِبل هؤلاء للتشكيك بالإله المُدبر، وعدم قابليتها للتصدير إلى عُموم الناس، لأنها تشكيكات تحتاج إلى قدرة ذهنية خاصة، ولو فرضنا أن عموم الناس يملكون هذه القدرة على فهم تلك التشكيكات إلا أن مُقومات الانتشار من قراءة وكتابة وتعليم، لم تكُن أمور شائعة بحيثُ تسمح بتوسعة الدائرة.

 

السبب الثاني: هو عملي سلوكي، ويتعلق بنفس الظاهرة الدينية، ويتمثل بعدم كون الجوانب الحياتية العملية في شقائها وفسادها واختلالها لم تكن مُرتبطة بشكل مباشر وصريح باسم الإله وبإسم الدين، بل كانت مُرتبطة بالجملة وغالباً بفساد نفس الحكام أو العائلات الحاكمة التي تتعاقب على الحُكم، أو النُظم السياسية المسيطرة، ولم تكن قابلة في الجملة للربط الصريح باسم الإله والدين.

 

كلا هاذين العنصرين لم يكونا متوفرين تاريخياً، فباختصار لم يكن لدى المُلحدين القدرة على تصدير الأسباب المعرفية ولا كانت الظروف العميلة التي تتعلق بالدين والإله قابلة للتوظيف لضرب موثوقية ومكانة الدين في نُفوس الناس، ولكن بطبيعة الحال متى ما توفرت هذه الأمور فإن الظاهرة الإلحادية سوف تبدأ في عملية الانتقال والتغير إلى حالة عامة وشائعة، وهذا ما يُنبئنا به التاريخ، عندما بدأت السُلطة المدنية على الحياة البشرية ترتبط شيئاً فشيئاً بشكل صريح بالإله والدين (طبعاً من الواضح أنها كانت ترتبط ومن ثم تفشل، بمعنى أنه ليس أصل الارتباط، إنما تربط نفسها بالإله والدين ثُم تفشل في عملية الحُكم).

 

ماذا الذي حصل؟

الذي حصل تحديداً هو أن السُلطة المدنية قد ارتبطت بالسلطة الدينية عن طريق "البابا المُمَثِل للإرادة الإلهية" باعتبار البابا معصوماً في قراراته واختياراته إلا في حالات نادرة، وهذا ما بدأ في أواخر الألف الأول بعد الميلاد وفي مطلع الألف الثاني، حينما بدأ هذا الارتباط شيئاً فشيئاً أدى إلى تأسيس ما عُرف بالإمبراطورية الرومانية المقدسة على أعتاب نهاية الألف الأول من الميلاد وبداية الألف الثاني، ثُم وفي مُنتصف القرن الأول من الألف الثاني حصل الانشقاق العظيم بين الكنيسة الغربية والكنيسة الشرقية (أو أصبح هُناك ما يسمى باسم الكنيسة الغربية والكنيسة الشرقية بشكل حاد) وأستقل كلاً منهُما، وتفردت الكاثوليكية بالعالم الغربي (أصلاً الكاثوليكية أخذت اسمها تعبيراً عن السلطة الجامعة والشمولية والمطلقة للبابا)، وكان هذا هو أحد الأسباب الرئيسية في الانشقاق والمشاكل التي وقعت في الكنيسة المسيحية، حيث أراد البابا الروماني بأن تكون له السلطة المُطلقة على جميع الكنائس وأراد بعض التعديلات في العقائد، وكان هذا الأمر من الأسباب الرئيسية لنشوب الخلاف وحصول الانشقاق كما ذكرنا سابقاً وسوف يكون فيما بعد انفراد الكنيسة الرومانية بالغرب وقامت ببسط السُلطة، لكن فيما بعد أيضاً سوف يكون السبب انبثاق الطائفة البروتستانتية كحركة اعتراضية على هذه السُلطة الشاملة، وأيضاً بعدها في انبثاق التيار المادي العلماني لكي يُطيح بالجميع، لكن ضمن مراحل لازالت إلى الآن وآخر مرحلة بدأت على أعتاب الألف الثالث بعد الميلاد منذ ستة عشر عاماً، وبعد أن تم إعلان قيام الإمبراطورية الرومانية المقدسة بدأ العمل على تكوين الحضارة الغربية المسيحية الجديدة خُصوصاً بعد ضعف وتخلخل السيطرة الإسلامية على بعض أجزاء أوروبا وصولاً إلى الانهيار التام وخروج إسبانيا والأندلس من بين أيديهم مُطلقاً، ثُم بدأت الحملات الصليبية التي سخرت كل مقدرات الإمبراطورية لخدمتها، والتي صاحبها عبور المستكشفين ونقل التراث العلمي المكتوب بالعربية، فبدأت حركات الترجمة وانتعشت المعرفة وبدأ النشاط العلمي أوجه، وبدأ التحول الثقافي والعلمي والفني والاقتصادي، خُصوصاً بعد سُقوط القسطنطينية في تقريباً القرن الرابع عشر، وهجرة مُفكريها وعلمائها ونقل التراث الروماني واليوناني الفني والأدبي والفلسفي إلى إيطاليا ثم منه إلى كافة أجزاء أوروبا.

 

بطبيعة الحال أمام هذا التغير قامت السلطة الدينية القائمة بمحاولة الاستفادة من كل ذلك لتدعيم سُلطتها وموثوقيتها وهذا سيف ذو حدين، وفي المقابل العمل على تفادي ما يجلبه كل ذلك من عناصر تؤدي إلى الاختلال وتؤثر سلباً على غايتها وهذا ما أدى إلى أن ينشأ من بين الكثير من الأمور التي نشأت، نشأ التبرير العقلي للعقيدة الكاثوليكية في ذلك العصر وتلك القُرون بدأ النشوء التبرير العقلي للعقيدة الكاثوليكية كان موجوداً بشكل خجول قبل ذلك ولكن في هذا العصر بدأ، والذي بلغ أقصى مدى له على يد "تُوما الإكويني" وهو الذي رجح وتبنى رؤية "ابن سِينا" على رؤية "ابن رُشد"، لأن التُراث العربي نُقل كله تقريباً بخلافاته ومُضادّاته، وفي المُقابل من هذه الحركة الكاثوليكية أو هذه الحركة التُومائية نشأت حركة أُخرى فضلت "ابن رُشد" والذي عُرف عنه بُعده عن التأثر بالتيار الإشراقي، ومهاجمته للسُلطة الدينية ومُتكلميها والمُحَدِّثين في عصره (معروف عن "ابن رُشدأنه نُفي وحرّقت كُتُبه) وأدى إلى مُشكلة في ترجمة كُتب ابن رشد وأصبحت هُناك ترجمة مُشوهة، ونُسبت إليه أراء غريبة عجيبة، وهذا ما أدى لاحقاً إلى اعتبار ردت فعل الكنيسة اعتبار الانتماء والإتباع لابن رشد حركة هرطقية وقد كانت نتيجة هذا الصراع الداخلي أن الكنيسة الكاثوليكية قامت رسمياً بتبني المنهج العقلي على الطريقة السيناوية الأفلطونية مُتمثلةً بـ "تُوما الإكويني"، واعتبار ذلك أيضاً هو المذهب الرسمي لـ "أرسطو"، حتى أنه قال بعضهم مازحاً أنه إنه تم تعميد "أرسطو" وجعله كاثوليكياً. والأساس في جعل هذا المنهج بهذا التفسير يرجع إلى الأساس المعرفي للعقيدة الكاثوليكية، وفي المُقابل اُعتبرت النسخة الرشدية هرطقة وتم تحريم أفكارها وملاحقة ومحاكمة ومعاقبة كل من ينتمي إليها أو حتى يُشك بالانتماء إليها.

 

وبالجملة وباختصار، وكمثال على مستوى العقيدة، وكنظرة عامة أصبحت مَظاهر الحَياة وتنوعاتها تُشكل اِنعكاساً للرؤية الكَونية والعَملية لرأس الهرم للسُلطة الحَاكمة، حيثُ تم تركيز الاهتمام على تثبيت العقيدة والمنهج العلمي، والارتباط بالإله والحياة الأخرة وإهمال العمل على تطوير الحياة المدنية الفعلية على الأرض، والأهم من ذلك كُله شُغل المُجتمع والسياسة والاقتصاد بأهداف وطُموحات وهُموم رأس الهرم والتي كانت تتمثل بشن حُروبه الدينية والسياسية -لأن الأمور لم تكن مستتبه في داخل أوروبا- والخارجية والداخلية، وببسط عقائده وتعاليمه وتعميمها، فتم تسخير كل مُقدرات الإمبراطورية لخدمة الأهداف البابوية ووضع حدود على التعليم والاقتصاد والقانون والتجارة والبحث العلمي التجريبي والعقلي بحيث يكون كل ذلك متوافق مع الرؤية والمنظومة العَامة المُرتبطة عضوياً كما تصرح بالإله، وتم تأسيس محاكم التفتيش لملاحقة الهراطقة والخارجين عن العقيدة الكاثوليكية (طبعا ذكرت الكثير من الأساطير والتضخيم عن حجم ضحايا محاكم التفتيش بعضهم يقول أكبر حد كان 50 ألف، وبعضهم يذهب بها إلى ملايين)، بغض النظر لكن هذا الوضع كان قائماً، ولكن رُغم هذه الشدة بطبيعة الحال وكما يُخبر التاريخ بأن الشدة لم تنهي الاعتراض، لم ينجح في منع استمرار الحركة الرشدية، وأو منع انبثاق حركات جديدة مغايرة ومعارضة، فبدأت تطفوا على السطح العديد من الحركات التجريدية والصوفية والتشكيكية في داخل العقيدة المسيحية أي بين القساوسة والرهبان يقولون أن العقل لا الإستدلال فقط الإيمان، فمن داخل البيت المسيحي كان هُناك من أراد أن يهتم بالجانب التجريبي وتم منعُه وإقصائه مثل "روجر بيكون"، وكل هذا مقدمة لما سوف أذكره الآن، في غمرة هذا الخِلاف المسيحي المسيحي المُستمر، وبعد اِختراع الآلة الطابعة وانتشار الكُتُب وتوسُع عملية التعليم والقراءة، بدأ تيار ثَالث من خارج المؤسسة الدينية بالنُشوء والتكون والتبلُور بشكل أكثر فعالية وقوة، حيثُ بدأ يدعوا إلى إيجاد البديل المَعرفي والاهتمام بالعُلوم الطبيعية والعمل لخير الإنسان في هذه الحياة، والتخلُص من كُلِ المَفاسد والمظالم التي تعيشُ فيها المُجتمعات الأوروبية، لأن الحُروب والنزاعات لا تُوّلد إلا الفقر والمَشاكل الاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية، ونشأت بينه وبين الاتجاه الكاثوليكي الرسمي المسمى بالمدرسي مجادلات ونزاعات وحوارات حامية، فبدأ هذا الاتجاه والتيار الثالث يكتب وينشر في نقض الوضع القائم ويقدم البدائل، وهذا الصراع مع التيار الثالث كان له الدور في تعمق الخلاف المسيحي المسيحي، وفي البداية أصلاً هؤلاء أصحاب التيار الثالث دعموا نشأة حركة اعتراضية بروتستانتية في داخل البيت المسيحي، ولكن عندما استتب لهم الأمر هاجمتهم قاموا في النهاية أيضاً بإسقاطها.

 

 لكن هذا النزاع كان له دور في تعمق الهوّة بين المسيحيين الكاثوليك والبروتستانت فوقعت الحروب المعروفة التي امتدت إلى حوالي ثلاثون عاماً وامتدت إلى أوروبا كلها. وهذا ما أدى إلى أن تسقط كل الآمال من إعلان الإمبراطورية الرومانية المقدسة -الرومانية باعتبارها أول من حول الدين المسيحي من دين مضطهد إلى دين حاكم هو الإمبراطور الروماني قسطنطين- فبقي هذا الولاء وهذا الحلم والامتداد، هنا بدأت تتوافر عناصر إقصاء السيطرة الدينية على كلا المستويين النظري والعملي كلا الأمرين الذين لم يكونا متوفران عبر التاريخ أصبحت الأرضية مهيئة لهما، وراحت تتشكل تدريجياً مُقومات تأسيس المنظومة المادية كبديل عن المنظومة اللاهوتية في كل الجوانب وفي جميع الصعد، وسوف يتبين لنا بالتفصيل مراحل هذا الأمر، والآن وأمام فشل المنظومة اللاهوتية في تحقيق ما يطمح إليه المجتمع الإنساني وانطلاقاً من الطموح بإيجاد البديل، ولكنهُ طُموح مُحمّل بكل مَشاعر النُفور والاستياء والتمرُد على أي نوع من أنواع السُلطة الدينية سواءٌ كان على العقل أو العلم أو الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة أو الأخلاق، بل هو نفور من أرسطو وهذا أمر صرح به برتراند راسل أحد رموز الملحدين ويشير إلى أن الرفض للتراث العقلي لأرسطو كان محمّل بمشاعر لا تمت إلى الموضوعية بصلة ويقول أنه يتمنى أنه لو كنا استفدنا منه.

فصار هناك نفور لكل ما يمت للكنيسة بصلة وبدأ العمل على تأسيس ما تتطلبه الحياة البشرية بعيداً عن اللاهوت وعن أرسطو حتى صارت هناك رغبة بالاستقلال حتى بالجانب الطبي، وكان يدرس كتاب القانون لابن سينا فبعضهم خرج ومزق الكتاب وهو بذلك يريد ان يدعو بأن حتى الطب ينبغي أن يتم تأسيسه من جديد بحيث يستقل كلياً عن هذا التاريخ الذي عاشوا فيه طوال هذه القرون.

 

لو تلاحظ المنظومة اللاهوتية هناك أساس معرفي وهناك عقيدة وهناك منظومة عملية، فالبديل عن المنظمة اللاهوتية يعني أساس معرفي بديل، وأساس عقدي بديل ونظام عملي بديل، فالبداية أولاً كانت إيجاد القطيعة المعرفية مع المنظومة اللاهوتية وإظهاراها على أنها مفتقدة إلى المبرر المعرفي الصحيح، وذلك بتبني المنهج التجريبي والذي يسموه بالمتطرف في بعض الأحيان، تبنّته كمنهج معرفي وحيد، بدءاً من "جون لوك" و "ديفيد هيوم" ثم "كانط" ثم الوضعيين الأوائل مثل " كُونت" و "إميل دوركايم"، وصولاً إلى الوضعيين الجُدد وعلى رأسهم "جماعة فيينا" و على رأسهم "برتراند راسل" وهلم جرا.

 

أساس كل المشاكل المعرفية والعلمية والميتافيزيقية تبدأ من هذه الحُقبة بداية من "جون لوك"، فهو من وضح حجر الأساس على الرغم من أنه يقال إنه لم يكن مُلحداً بغض النظر بانه سواء صرح بإلحاده أو لم يصرح، لكنه هاجم وبشدة قدرة العقل على استدلال الوجود الإلهي وأعتبر أنه ليس هناك أي شيء أسمه قواعد أولية كما ذكر، ولذلك صرح "جون لوك" بأن نقاشاته ولماذا كتب كتابه الذي شكك فيه بقدرة العقل، صرح بأن نقاشاته الحادة مع المدرسيين قادته إلى الرجوع إلى المبادئ المعرفية التي استندوا إليها، وأدعى "جون لوك" أنه اكتشف غموضها وابهامها وعدم موضوعتيها، وهذا الموضوع يكرره "برتراند راسل" في حكمة الغرب وفي بعض العناوين الأخرى، وهذا ما نسميه في وقتنا الحالي صناعة البرهان أو المنهج العقلي البرهاني، هذا ما تم نقده وأخذوا بالصوري، المنهج العقلي البرهاني له مباديء كقانون الهوية، تمييز ما بالذات عن ما بالعرض، تمييز بين الذات والغير، مجموعة من المبادىء التصورية والتصديقية على أساسها بني المنهج العقلي البرهاني الذي إذا طبق فمن شأنه أن يعصم الذهن عن الخطأ، هم أتوا إلى هذه المبادىء وأول من أتى هو "جون لوك" فقال أن هذه المبادئ صناعات عقلية فالعقل اصطنع هذه المفاهيم وهي مبهمة لا يوجد شيء يدلني على أنها قابلة للإنطباق على الواقع فصار المنهج العقلي البرهاني كله موضوعا على جنب منذ ذلك الوقت.

 

لذلك هو قام "جون لوك" باختيار المنهج التجريبي القاضي برفض وجود أحكام عقلية أولية فلا يوجد عندنا شيء أسمه أحكام عقلية أولية مطلقة صادقة وهذا الأمر يُشكل الركيزة الأولى والأساسية، بل أقول الوحيدة التي يتكل عليها التيار الإلحادي في ضرب أدلة الوجود الإلهي.

 

 فرفض "جون لوك" وجود أحكام عقلية أولية مستقلة الصدق عن التجربة والحس، وشكك في واقعية المفاهيم العقلية من قبيل الهوية والجوهر والعرض الذاتي والعرضي وأعتبرها مفاهيم مبهمة إسقاطية نسقطها على الواقع، وهذا الأمر عينه استمر عند "ديفيد هيوم"، فلقد صرح "ديفيد هيوم" بأنه يتابع مهمة "لوك" وديفيد هيوم ملحد جاهر بالالحاد، وأنه كرر ووسع وتعمق أكثر في النقد، وكان "ديفيد هيوم" صاحب بيان بخلاف "جون لوك" لم يكن عنده ذاك البيان ولم يأخذ ذاك التأثير في هذا الجانب فهيوم سد هذا الفراغ، فكان عنده بينا وهو أصلاً مؤرخ لبريطانيا وعنده كتاب في التأريخ لبريطانيا.

 

فتابع هيوم مهمة لوك ودعا في أخر كتابه الذي ألفه بهذا الصدد وأتى بعبارة ساخرة فقال (الآن فلننظر إلى المكتبات، هل نرى فيها كتاباً في الرياضيات، هل نرى فيها كتاباً للعلوم التجريبية المبنية على الإستقراء، إذاً فلنرمي بها إلى النار لأنها كلها سفسطة)، ومن هنا بدأ "ديفيد هيوم" بالمهاجمة الصريحة للميتافيزيقا والأساس العقدي للمنظومة الكنسية، والأمر تعزز أكثر عند "كانط" لأنه كانت هناك بعض الأمور الناقصة عند "جون لوك" و "ديفيد هيوم" ولذا فقد أتى "كانط" لكي يسد تلك النواقص، ولذا فقد صرح أيضاً في أكثر من موضع أنه يتابع مهمة "جون لوك" و "ديفيد هيوم" في إلغاء علمية الميتافيزيقا -من المعروف أن الميتافيزيقا تشكل الأساس المعرفي والوجودي لأدلة وجود الإله- صرح بهذا ولكنه قال أنه تخلص من إفراطهما، فهو حاول أن يعطي الموثوقية العلمية لعلم الرياضيات ولعلم الطبيعيات، لأن تجريبية "جون لوك" و "ديفيد هيوم" أصلاً تقضي على نفس العلوم التجريبية، فلقد حاول "كانط" أن يقدم بديل لأنه ملتفت ومبرر لليقين بالرياضيات ومبرر باليقين للتجريبيات، ولكن حتى هذه المحاولة تم رفضها من نفس التجريبيين.

 

على كل حال وبالجملة قامت هذه الحركة على مر التاريخ بتأسيس تدريجي للمنهجية المعرفية المادية التي وصلت مؤخراً إلى ما يُسمى بـ (العِلموية) أو العقلانية العلمية القاضية بمرجعية حصرية للعلوم الطبيعية والإنسانية الوضعية وعلى رأسها الفيزياء وتفردها بإعطاء المعرفة الموثوقة البعيدة عن الخرافة، وقاموا بجعلها وجهاً لوجه مع الرؤية المعرفية الدينية باعتبارها كما كرروا وكرروا كثيراً بأنها مبنية فقط على نظم عقلية مخترعة فارغة وعلى التعبد بالمرويات الدينية، والادعاءات الصوفية والارتباط العاطفي بالشخصيات الدينية دون أساس معرفي موثوق، هكذا بدأوا بالترويج وهكذا عملوا، وهذا كله على الجانب المعرفي فقط كبديل معرفي لهذه المنظومة، وبالتالي عمدت هذه الحركة إلى إظهار الفكر اللاهوتي على أنه فكر خيالي دوغمائي يدعي ما لا يملُك إثباته، فأدحضت الأدلة على الوجود بالإلهي بالنقود والتفنيدات إلى الحد التي ترسخت فيه فكرة وأصبح من البديهيات بأنه يمتنع إقامة الدليل على الوجود الإلهي، لدرجة أن "عادل ضاهر" في كتابه (الفلسفة والمسألة الدينية) في المقدمة يقول "لعلك تقول لي بأنه هل هناك حاجة لكي نقوم بنقد أدلة الوجود الإلهي بعد ما قام به هيوم وبعد ما قام به كانط". فمنذ ذاك الوقت سادت هذه القناعة، هو قال لا هناك العديد من التومائيين الجدد الذين قاموا بمحاولت اعادة هذه الأدلة وصناعتها، وكل عمليات النقد لهذه الأدلة تصل في النهاية إى ركيزة أساسية منطقية، عندما يتم حشر الناقش في الزاوية، النقطة الأساسية الذي يتكىء عليها هي تقسيم القضايات إلى تحليلية وتركيبية، هذا الخطأ والتدليس التاريخي الذي بدأ من عند هيوم وسرى في جسد المنطق ثم أن المنطق الصوري لا علاقة له بالتقسيم إلى تركيبية وتحليلية لأن هذا بلحاظ المادة، وثم استغنوا عن المنطق المادي والعلوم المعتمدة عندهم رياضيات وتجريبيات فقسموها إما تحليلية وإما تركيبية وعلى هذا الأساس للتقسيم للقضايا الذي هو اختزالي والذي يلغي أحد الأقسام الرئيسية الذي هو عليه يقوم صناعة البرهان وعليه تقوم الميتافيزيقا هو العرض الذاتي، فهم يرجعون بالنهاية إلى أنه المحمولات المستعملة في الأدلة على الوجود الإلهي لا هي من التحليلية ولا هي من التركيبية إذاً فهي قضية ليست بذات معنى مباشرةً، فالركيزة كانت من عند هؤلاء من عند هيوم ولوك في المنطق وليست في مكان آخر، وهذا إن شاء الله فيما بعد ممكن يصير كلام عنه.

 

المهم الآن الشيء الأكثر خطورة على عامة الناس أنه في خضم كل ذلك، توفرت الظروف للهجوم على الدين من الزاوية التاريخية والنفسية والاجتماعية على يدي الوضعيين بدءاً من "كُونت" ثم "إميل دوركايم" و "فرويد" وهلم جرا..، وذلك من خلال دراسة التاريخ الديني للأمم على مر التاريخ، فالماديين لم يجلسوا في بيوتهم برخاء، فقد عملوا بجد وذهبوا واستكشفوا كل الظواهر الدينية في المجتمعات، فأنطلق الباحثون والمستكشفون جنباً إلى جنب مع الحملات العسكرية ورحلات الاستكشاف إلى القبائل والشعوب البدائية وغير البدائية ولاحظوا الآثار الباقية للحضارات البائدة في الشرق والغرب وتم التخصص والتوسع في دارستها جميعاً خلال أكثر من قرن ونصف من الزمان، وقد عزز ذلك في بداية القرن العشرين امتلاك القدرة على قراءة الألواح السومارية والفرعونية، وقد جمع كل ذلك مادة وهم ماديين أصلا، فهم لا يجمعوها لكي يعرفوا ما هو الدين بل هم أصلاً ماديين، جمعوا هذه المادة وقاموا بصياغة وتفسير كل هذا التراث على أساس مادي بمظهر علمي موضوعي تحت ما يسمى بـ "علم الأنثروبولوجيا"، وهذا الأمر في هذا العلم موجود وفي علم الفيزياء والأحياء موجود وهو أن تكون الخلفية المادية هي المُحرك وهي البوصلة التي توجه البحث العلمي إلى أين يتجه، وإن لم توجهه فهي تأتي وتضيف عليه عبارات وأمور حتى تظهره بمظهر مضاد ومواجه للدين ومواجه للمنظومة اللاهوتية هذا كله فقط على المستوى الميتافيزيقي والمعرفي، وعلى المستوى السياسي والاجتماعي فكان لابد لإيجاد البديل عن الحكم الملكي الديكتاتوري المرتبط بالسُلطة الدينية والبديل عن الإنتماء الديني المذهبي والبديل عن جعل الإيمان والانتماء الديني مصدر للقيمة الإنسانية والحقوق الطبيعية والبديل عن فرض العقيدة الدينية الموحَّدة وهذا ما تم فعلاً على يدي " لوك" نفسه بتأسيس الليبرالية، وضع أسس الليبرالية التي تتعلق بالإجتماع والسياسة لتكون الديموقراطية الإجتماعية والسياسية منهجا عملياً في السياسة والإجتماع.

 

فنادى بحرية الانسان الشخصية ، هذه الامور التي سأذكرها سوف تتبدى اثارها على مجتمعاتنا فيما بعد وكيفية توظيفها وكيف تحولت تلك الافكار إلى مشهورات راسخة ثم يُستغرب كيف تنتقدها وكيف تعتبرها خاطئة ؟؟!. ثم استشناع التعاليم والأحكام الدينية لأنها منافية لمشهورات العصر، في المنطق يذكرون ان كلمة شنيع يوصف بها من يخالف المشهور، فصار يستشنع ويستقبح الأمر وهناك العديد من الآثار التي سآتي على ذكرها.

 فقام لوك بتأسيس هذه المنظومة، فنادى بحرية الانسان الشخصية في العقيدة الدينية وتساوي الناس بمعزل عن الانتماء الطائفي والمذهبين، ورفض السلطة الديكتاتورية الملكية واللاهوتية ليكون الحكم المدني العلماني الديموقراطي بديلاً عنها.

 

وهذا ما مهد لاحقاً في ذاك العصر لنشوء فكرة القومية وفكرة الوطنية في ذاك العصر نشأت هذه المفاهيم، المبنيتين على الوحدة التاريخية والعرقية واللغوية والجغرافية، اصلا كانت اللغة السائدة هي اللغة اللاتينية، وهي لغة الامبراطورية الرومانية وقد تركوها وصار لكل بقعة جغرافية لغتها، وأسست الدول على أساس القومية والوطنية، لتصير انتماءً بديلاً عن الانتماء الطائفي والديني، واساسا لتكوين الدول الحديثة بعد ان كانت الممالك والامبراطوريات السابقة تتأسس غالباً على خلفية دينية.

كما أنه مهّد لتبلور فكرة الاحزاب القومية والوطنية وارتباطها بالآلية السياسية والديموقراطية وذلك على المستوى السياسي والإجتماعي.

 

على المستوى الاخلاقي والتشريعي أيضا هناك عدة نقاط مهمة، كان لابد من ايجاد البديل عن النظرة الاخلاقية الصارمة، وعن ارتباط الاخلاق والتشريع بالأمر الإلهي ومن اعتبار ان الخير والشر مفاهيم واحكام مطلقة، والتحكم بسلوكيات الناس وتصنيفها على هذا الاساس.

هناك بديل وهو محاولة هيوم الذي رفض سلطة العقل على الاخلاق، ثم محاولة (بنثام) هي المحاولة الناجحة و الأكثر تأثيرا والتي تم تدعيمها فيما بعد على يد (جون ديوي) في امريكا و (وليم جيمس) وصار أسمها البراغماتية.

هذا (جيريمي بنثام) وهو طبعا ملحد مجاهر بالإلحاد كان له مشاركة اساسية في وضع العديد من الدساتير والقوانين في العديد من الدول التي نشأت في ذلك القرن وفي تلك الفترة .

 

على المستوى الاقتصادي : تم السعي إلى ايجاد المنظومة الاقتصادية المناسبة وكان الصراع المشهور بين الإشتراكية والرأسمالية وكان النصر من نصيب الرأسمالية.

 

على المستوى الاعلامي والتوجيهي : فهم يجدون أن المنظومة اللاهوتية لها ارتباط بالناس عبر القساوسة والرهبان والكتيّبات وعبر العديد من الوسائل، فكان لابد من ايجاد بديل، على المستوى الاعلامي والتوجيهي كان لابد من ايجاد البديل عن القساوسة والرهبان والتعليم الكنسي الديني والسيطرة الثقافية الدينية وكان ذلك من خلال تأليف الروايات الأدبية المادية والالحادية والمنددة بالواقع الأوروبي والتي تحمل الدين الكنسية والقساوسة المسؤولية.

والروايات تصل لعامة الناس يقرأونها ويفهمونها بكل بساطة ، وانتقدو القساوسة والدين والرهبان واظهروهم بالمظهر الذي يريدون.

 

والأمر الثاني سيطروا على مقاليد التعليم والتي تتوج في بداية القرن العشرين بتأسيس منظمة اليونيسكو UNESCO، أول شيء كان تأسيس أهلي خاص وبعد الحرب العالمية الثانية تم تأسيس رسمي، وهي لها الحاكمية على الأنظمة التعليمية ولا يمكن ادخال شيء لا ترضاه فيه بشكل رسمي في المنهجية.

وهذه المنظمة هي بنت المنظومة المادية التي تعتبر عدم صحة أن هناك معايير اخلاقية عقلية وأن هناك أسس عقلية ميتافيزيقية، إنما تعتبره أمور نسبية وغير قابلة للإثبات، وهذه منظمة اليونسكو هي التي حكمت بقوانينها مدارسنا كلها وتعلمنا فيها ولذلك المنهج التعليمي منهج مادي، نحن درسنا الإنسان القديم في مدارسنا، وفي مدارسنا كان الدين فقط يعطى بكتب مضافة على المنهج ولا يوجد شيء إلا ما يخدم المنظومة المادية، للأسف ايضا كان التعليم الديني كان تعليم تلقيني، وهذا كان له آثار وخيمة فيما بعد استطاعت ان تستغلها المنظومة المادية.

 

الأمر الثالث كبديل عن القساوسة والرهبان وهو امر بدأ مؤخراً : قامو بإخراج العلماء والمتخصصين من المختبرات الذي عنده قدرة على العمل الاعلامي والكلام مع الجمهور ، وصنعوا مجموعة من النجوم العلميين الذي صار لهم ارتباط نفسي مع الناس وارتباط عاطفي وارتباط فيه أُنس، صاروا موجهين بل عملوا بعض المهرجانات حيث يجمعوا فيها كل الناس وبالآخر يجتمع مجموعة من الناس ويكون هناك مجموعة من كبار المتخصصين الملحدين ويتم فيها تبادل الأسئلة والأجوبة وإعطاء بعض النصائح والتوجيهات، فكان لا بد من ايجاد هذا الأمر وعملوا عليه وجعلوا العلماء في البداية رموزاً تستحق الاحترام والتقدير وتمهيداً لجعلهم قدوة كما حصل في العقود الأخيرة.

 ايضا تم تأسيس فروع خاصة في الجامعات لنشر العلوم وتقريبها من أفهام الناس وربط الناس عقليا ونفسيا بها وبمتخصصيها بالنحو المتوافق مع المنظومة المادية.

 

وأخر كم محاولة لإدخال الفلسفة حتى إلى التعليم الابتدائي، منظمة اليونسكو عملت في كتاب (الفلسفة ومدرسة الحرية) كما أتذكر، فيه دراسة شاملة عن واقع الفلسفة، طبعا الفلسفة بمعنى أنها اسلوب تفكير واسلوب نقد، التفكير في ما وراء الظواهر، الفلسفة لا تشكل علم ولا تشكل منهج أصلاً نفس المنهج هو قضية محل خلاف، وأحد الاهداف الاساسية المعلنة وراء هذا ان الطفل منذ البداية إذا علماه على النقد فلا يمكن أن يأتي ويكون رأسه كصندوق يتم تعبئته والتحكم به، بل يصبح ناقداً ويطلب عن كل شئ دليل، وكان غرضهم التخلص من السيطرة السلفية التي تحدث في عقول الشباب.

الأمر الاخير هو صناعة الأفلام الوثائقية والتمثيلية والكرتونية والفنون عموما لتكون خادمة لكل ذلك.

 

 

الخلاصة :

 

أنه منذ القرن السابع عشر كان امام المنظومة المادية ثلاث مهمات :

  • المهمة الأولى: التخلص من سيطرة الكنيسة الكاثوليكية بشكل كامل من خلال خطوتين :

 - هدم الأسس المعرفية للكنيسة المتثملة بالميتافيزيقيا الذي هو هدم عقلي بحت لا علاقة له بالبحوث الروائية والدينية والتاريخية، وهذا أمر عمل عليه هيوم ولوك وكانط وآخرين.

  • نقد وكسر هيبة الدين وتصويره بمظهر بشري وتتبع كل ما يتعلق بالدين وكل ما يمكن اعتباره مشين عن الدين من أفكار وآراء وممارسات.

 

  • المهمة الثانية: ايجاد البديل بعد التخلص من سيطرة الكنسية

فنحن نريد السعادة وتطوير هذا المجتمع فجاء البديل على خلفية المنظومة المادية، بديل معرفي وعقدي شامل بحيث شكّل معالم المشروع العلماني المضاد للاهوتي فكان تجريبيا كمنهج معرفي وليبرالياً كمنهج سياسي إجتماعي ونفعيا كمنهج أخلاقي وركيزة تشريعية ثم الرأسمالية في النظام الإقتصادي وثم في العلوم الطبيعية والإنسانية كمرجعية علمية وحيدة والمتخصصون فيها كمرجعيات ورموز تملك الإحترام والتبجيل وأخيراً الإنتماء القومي والوطني كعلقة ورابطة مجتمعية ونفسية.

 

  • المهمة الثالثة: الترويج

بعد الخلاص من العدو والتأسيس فنريد أن نجعل هذا التأسيس في المجتمع راسخ، ترويج وترسيخ كل ذلك يعني الأول والثاني، بطلان المنظومة اللاهوتية وحسن ونجاح المنظومة المادية بلباس العقل والعلم والأخلاق الإنسانية وذلك بنشرها وتقريبها من نفوس الناس وتوفير البدائل النفسية التي يحتاجها عامة الناس لتكون عوضا عن مثيلاتها التي توفرها المنظومة اللاهوتية.

 

ترى ما الشيء الذي يوفره الدين ولا توفره المنظومة المادية لذلك صار الكلام عن معنى الحياة، فحاولوا ان يجدوا شئ يعطيه العلم أو المنظومة المادية للحياة بحيث الانسان يحيى من أجله، وحاولوا أو يوجدوا القدوة، وأن يبرروا الأخلاق، وهذه نطقة حساسة نوعاً ما، فالمتدينين أخطئوا فيها والملحدين مصيبين، المتدينين أقصد الذين نازعوهم، الإتجاه الديني العام الذي جاهر بمجابهة الملحدين كان يحتج فيما يحتج في الحاجة إلى الدين بالنسبة إلى الأخلاق وضبط الناس وأنه لماذا نقوم بالإمتثال للأمور الأخلاقية ولا نسرق ولا نقتل لماذا إذا لم يكن هناك إله، فكان رد الملحدين أن أصلاً الأخلاق لا تحتاج إلى إله حتى تثبت واقعيتها وهذا طبعاً مبنى موجود في داخل المنظومات اللاهوتية في أن الأخلاق أساس عقلي والحسن والقبح عقليين كما نعتقد.

 

المهم في هذه النقطة الثلاثة أنهم ليس فقط أرادو إخراج المنظومة اللاهوتية من مسرح السياسة والإقتصاد والقانون..ألخ بل أرادوا إخراجها أيضا من المسرح الإجتماعي والفردي وهذا سيتبين لنا فيما بعد لماذا، حتى تصير الحالة التلقائية الطبيعية عند الفرد أن يكون مادي، يعني الملحد كأنه شيء طارىء في قبال اللاهوت، والحال لا أصلاً الحالة الطبيعية كما يريدوا أن يقولوا مثل ما يقول ميشال اونفري (Michel Onfray) أنه أنت ملحد، وتكون مادي، الإلحاد هو أنك رافض شيء طرأ، فهم يريدوا أن يصلوا إلى هذه الحالة، أن تصبح المنظومة والرؤية المادية هي إسلوب الحياة، فرغم إعلان انحلال الإمبراطورية الرومانية المقدسة رسمياً في اول القرن التاسع عشر م1806 تقريبا، وتم اخراجها من الواقع السياسي... الخ.

ولكن بقي مهمة الإخراج الإجتماعي والفدري إخراجها من المجتمع برمته.، ولكن تحقيق هذه المهمات بالنسبة للواقع الأوروبي فالظروف تهيأت، أما بالنسبة للشرق الأوسط فقد كان محتاج لنفس الظروف لابد أن تتهيأ.

الشرق الأوسط في المرحلة الأولى كان محتاج بأن يتوفر نفس الوضع الاجتماعي والسياسي الذي مهد الأرضية المناسبة لمهاجمة الدين وسمح بنشر المنظومة المادية في العالم الغربي كبديل عن المنظومة اللاهوتية.

 

ماهو الوضع السياسي والاجتماعي الذي كان الذي هو سمح ومكن وأعطى الزخم حتى تنتشر المنظومة المادية لا بد أن يتوفر في الشرق الأوسط، وبالتالي كان الماديون بحاجة –أنا لا أتكلم عن نظرية المؤامرة وهل قاموا بذلك أو لا في النهاية الظروف هكذا سارت- إلى قيام الأنظمة الدينية السياسية بالسيطرة بإسم الدين والله على المجتمع الشرق اوسطي بنحو متنافر ومتعارض، ومن ثم فشل هذه الأنظمة في تأمين الخير للإنسان وتصارعها فيما بينها ؛ حتى تقود المجتمع الشرق أوسطي إلى مرحلة التقاتل والتدافع باسم الدين والإله بحيث تكون الأرضية ممهدة لتقديم المنظومة المادية كبديل، يعد بالخلاص تحت مظلة المرجعية العلمية للعلوم الطبيعية والانسانية الوضعية بغض النظر هم عملوا على ذلك أم لم يعملوا في النهاية من الواضح أن هذا ما كانوا يتمنوه وهذا ما وقع إلى حد كبير، وهذا ما سمحت بتطبيقه نتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية بتقسيم المناطق وتقسيم الدول على أساس طائفي وعرقي و وضع اسرائيل في الشرق الاوسط، دولة دينية، والملحدين أصلا حتى الدولة الصهيونية كدولة يهودية لا يقبلوها فهناك يهود ملحدين ويهاجمون الدولة الإسرائيلية، وإيجاد ملكيات وكل هذا سمح في أن تجري بالنحو الذي يخدم ما يريدون إلى حد كبير وليس تماماً.

 

استمر العمل على هذه المهام الثلاث منذ اكثر من ثلاثة، لا نتكلم عن سنة وسنتين نتكلم عن عمل وجهد على عدة مستويات منذ ثلاثة قرون لمنظومة متكاملة، ولازال. وقد اتخذ شكلا اكثر تطرفا مع بداية هذا القرن منذ ستة عشر عاماً.

 

وهنا لابد ان نقف قليلا لنرى مقدار نجاح الماديون في ارساء منظومتهم المادية وماهي العقبات العملية التي واجهتهم والتي لأجلها اختار العديد أن يعلنوا ولماذا هذا الاعلان عن هذه المرحلة الجديدة تحت مسمى (الالحاد الجديد) وهذا ما يصفه به الصحفيون، لأن ذلك سوف يمكننا من تحديد مركز المشكلة والداء الحقيقي وبالتالي سوف نرى مباشرة المعالم الكلية لعلاجه الجديد .

 

 إذا نظرنا إلى الواقع الذي نعيش فيه نجد عدة أمور هي نتيجة لنجاح المنظومة المادية وفي نفس الوقت هي عوامل لإضعاف الظاهرة الدينية في المجتمعات، نذكر أهمها ونختصرها حتى لا أطيل أكثر:-

 

  • نتيجة سيطرة النظام الرأسمالي بقيمه وقوانينه ، أصبح الطابع العام –حسب الغالب وليس بشكل كلي- لسلوك البشر هو الانهماك الكلي او الشبه كلي إما في السعي في زيادة الثروة، او السعي لتأمين الرفاهية للحصول على كل ماهو جديد ، او السعي لتأمين المستلزمات الضرورية لكرامة العيش، إما مسكين شغله هم رغيفه وبيته وتعليم أولاده فهو مُستهلك ومُستنزف نتيجة آثار هذا النظام الرأسمالي، وإما مندفع نحو الرفاهية وإما مندفع نحو تجميع الثروة.

ونتيجة لهذا الانهماك والإستغراق المبني على تأسيس نظري، هذا يعتبر بالنسبة إلى التأسيس النظري للرأسمالية شيء جيد فهو تأسيس نظري مسيطر وليس حالة عابرة، أصبح العلم والتعليم نتيجة لذلك مجرد أدوات لذلك فيكون العلم والتعليم من أجل أن تكتسب وظيفة وتحصّل أموال..الخ، بل كثيراً تجد هذا الإنهماك في المتدينين الذين هم منهمكين أصلاً اصبح الدين مجرد وسيلة يتبعها المتدينون لتأمين هذه الأهداف، وهذا يعني بشكل مباشر (تعويم الدين) خواء النفوس وهشاشة البنية المعرفية والعقدية والاخلاقية، فلا يعود الإرتباط بالإله والدين قائم على أسس متينة او موضوعية لأن المرء لا يجد الوقت لذلك اصلا، لا وقت لديه لفهم الدين عن تعقّل فهو لا يوجد لديه وقت حتى لا يتبّع آباءه إتباعاً أعمى، فإذا كان القرآن ذم الكفار والمشركين قال (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) قال (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) فألا يجب أن نعرف كيف نعقل؟ وحقيقة التعقل ثم نذهب ونشاهد أنه ما أورثنا آباؤونا من عقيدة، فالعقيدة بسبب هذا الإنهماك لم تعد تؤخذ عن وعي وموضوعية وأدلة واقعية وإنما صارت تؤخذ نتيجة التلقين ونتيجة السيرطة لبعض الأمور.

 

فلم يعد الإرتباط بالإله والدين قائم على أسس متينة وموضوعية لأن المرء لا يجد الوقت لذلك ولايدخل هذا الأمر ضمن أولوياته، بل يتحول الدين ليصير مجرد تقاليد وطقوس وأعراف لا ينجذب الإنسان إليها إلا تحت سلطان العاطفة والأنس أو بداعي المصلحة، فلما يكون لديه مشاكل مالية أو محتاج فيرجع للعبادة ومتى ما ارتاح ترك، وهذا بدوره ما جعل دين الناس هشاً على المستوى المعرفي وقابل للتفريغ من مضمونه وسريع التأثر للنقد والتشكيك، وإذا كان دين القاعدة الجماهرية نتيجة لانهماكها ونتيجة لعوالم سوف نأتي عليها مأخوذ بهذا النحو فسوف تكون قابلة للتأثر بالنقد بشكل سريع وبالتالي سيطرة هذه المنظومة الرأسمالية بآثارها مهّد لطرح التشكيكات وبالتالي استبدالها بالرؤية المادية للحياة والهجوم النظري على الدين، فبعدما تم عزل الدين أصبحت المنظومة المادية هي اسلوب الحياة، سواء تحت غطاء ديني أو تحت أسماء دينية، لكن بالعامة العامة الهموم مادية والطموحات مادية والتعليم مادي كل شيء مادي، على المستوى العملي الدين لم يعد حاضراً على الاغلب فبالتالي اذا جاء النقد النظري وللدعائم النظرية للمنظومة الدينية ستنساب بسهولة.

 

  • نتيجة لسيطرة الرؤيتين الليبرالية والنفعية على التعليم والسياسة والاعلام ، أصبحت الأفكار الليبرالية كالحرية الشخصية والاستقلالية المطلقة اكثر اهمية، واختزال الشر والفساد والرذيلة في حدود الإضرار بالغير ؛ حيث مهما كنت تفعل ومهما كانت اختياراتك فالمهم انك لا تضر مباشرة بالآخرين، والمراد بالإضرار هو النفسي والأغلب الجسدي، أما إضرار معرفي وتضليل وإضرار أخلاقي هذا كله أمور نسبية، بالتالي تم شرعنة الانسياق وراء الرغبات والشهوات وترويج مثيراتها ومحفزاتها دون ان يكون هناك أي اعتبار للأضرار الأخلاقية والمعرفية ولو أردت أن أتوسع في نماذج لهذا الأمر لكان الوقت يطول جدا، ولكن النقطة الأساسية هنا أنه تم تشكيل مشهورات ليبرالية ونفعية في مجتمعاتنا عبر الإعلام والمدارس بحيث صار يشنّع على من يخالفها أو ينتقدها فاصدمت بالتعاليم الدينية التي صارت موضع محاكمة وتقييم استنادا إلى تلك المشهورات، في المنطق في صناعة البرهان يذكرون أن المشهورات من قسم القضايا التي يصدق بها بلا تفكير ولا نظر، أيّ أن الإنسان يجد أنه نشأ وهو يصدّق بها، إذا أراد أن يتذكر متى كان يعتقد بأن الإنسان مثلا يجب عليه أن يأخذ فيزا إذا زار أي بلد أو أنه ينبغي أن يكون عنده إقامة إذا ذهب للدراسة في أي بلد غريب أو متى اعتقد مثلا بقضية ما فلا يستطيع أن يتذكر لأنه نشأ عليها وتربى عليها وهي من الأمور الراسخة في المجتمع، فهذه تصبح خلفية لمحاكمة ما يأتي وما يواجهها وعلى أساس القيم الليبرالية والنفعية أصبحت مشهورات، لأن تعليمنا ليبرالي ونفعي ومادي فصار حينما يكبر الشاب تُعرض عليه بعض الأحكام العقلية أو الدينية فيجد مضادة ومنافاة فيستشنعها، فيقول لا يقبلها عقلي لأن هو مبادئه الذي يستعملها في الإستدلال العقلي هي مشوراته، وهذه أحد النقاط الأساسية الجوهرية والمؤلمة في تشويه حقيقة العقل، يعني السفسطة في قبل الميلاد كانت تعني صاحب مهارة، فظهروا السفسطائيين واستغلوهها وشوهوها فصارت السفسطة تعني تزييف الحكمة أو الحكمة المشوّهة، والفلسفة كانت تعني العلوم الحقيقية ولكن في الغرب منذ "لوك" إلى الآن أصبحت تعني مجرد الممارسة التأملية فصارت مساوية للسفسطة فسلبوها.

 

والعقل والعقلانية أيضا بحيث الآن هناك من يدعي العقل والعقلانية فإذا أردت أن تعرف ما هي معايير العقل وما هي معايير العقلانية لا يوجد مجرد ادعاء للعقلانية والانطلاق من المشهورات والمسلمات الليبرالية والنفعية التي هي مسلمات ومشهورات لا يجد الإنسان نفسه بأنه بحاجة إلى أن يتسائل عنها ويفحصها، مثل الحرية الشخصية المطلقة، فيُستشنع ولا يحق لك أن تتدخل أو تنتقد أو تتكلم ..الخ من أمور، وهذا الأمر الأول أدى إلى جلب الأحكام  الدينية والتعاليم لتصير أمر عام لعامة الناس ولم يعد المتخصص هو الذي يتكلم فيها فتم إنزالها عن عرش التخصص وهيبتها ولا يتم التعامل معها مثل باقي الأمور.

 

  • نتيجة النجاح الباهر في العلوم التجريبية والتطبيقية ودورها في تأمين الحاجات المادية البشرية ونتيجة السيرطة الرسمية على مقاليد التعليم ومراكز البحوث العلمية تم تكريس النظرة إلى هذه العلوم على أنها وحدها تملك الموثوقية، وهذا بدوره ما جعل المتخصصين ملاذا وحيداً لمعالجة الأمور السلوكية والحياتية، وبالتالي تقويض دور الدين في توجيه الحياة البشرية وحصره في الأمور العبادية، فصار هناك علماء نفس واجتماع وكثير منهم خلفيتهم مادية، وعلوم الاجتماع والنفس أقسام، مبنية على خلفية مادية، هؤلاء المتخصصون من هذه الخلفية أصبح هم من الذين يذهب إليهم الناس والدين صار دوره فقط في الأمور العبادية، فإذا هناك واحد متدين فيسأل في الأمور العبادية.

وهذا كان تلخيص اهم ماحققته المنظومة المادية من نجاحات في مجتمعاتنا الدينية ولا أتكلم عن ما حصل في المجتمع التي نبتت فيه.

 

طبعا لا أقول أنه كانت الأمور كلها كما تريد أو كما يشتهي الماديون بل كان هناك عوائق منعت جزئياً من الوصول إلى ما يطمح إليه المنظرون، أهم هذا العوائق:

  • الداخلي: أن نفس المنظومة المادية وجدت نفسها غير قادرة على تلبية كل الاحتياجات، مثلا "معنى الحياة" هي بنفسها قانون أخلاقي وهي نفسها أصلا محل جدل في المنظومة الدينية، يرجع إلى الكتابات التخصصية لكبار المنظرين في المنظومة الدينية يجد التشابك والخلاف ويجد الشعور بالخلل التي تنقاد إليه المجتمعات، والسبب الداخلي أيضا أن المتدينين لم يقفوا مكتفي الأيدي بل حاولوا شرعنة العلوم فصار هناك أسلمة للعلوم وأصبح هناك من يخرج من القرآن نظريات فيزيائية وأحيائية وصاروا يعملوا علم النفس الإسلامي والإجتماع الإسلامي، حاولوا أن يظهروا الدين وكأنه مواكب للعصر، هذين الأمرين جعلت الماديين يشعرون بأن الحياة تدب في المنظومة اللاهوتية، بحيث استطاعوا أن يواكبوا أنفسهم، طبعا هناك أمور كثيرة على مستوى السياسة وكيف نجحوا، لكن أكثر شيء زعج الماديين والذي يراجع المراحل التي سبقت إعلان الحالة الإلحادية أو المرحلة الجديدة معاينة نجاح اللاهوتيين والمتدينين في التدخل في العديد من الأمور التعليمية والعلمية أو السياسية، وجدوا أنهم يقوموا باعادة ترتيب الأوراق والدخول على المنظومة الدينية حتى يكون لهم موطأ قدم، لم يغيروا المنظومة السياسة فالديموقراطية صارت هي منظومة مقر بها ومعترف بها أي شي ينتقدها فهو يعمل شيء قبيح جداً، ومن باب الإشارة أنا عندما تكلمت عن المنظومة الليبرالية والمنظومة المادية فلا أقول أن كل ما أتت به باطل وخاطىء فلولا إمتزاج الباطل بالحق لما اتبعه أحد ولولا المعاناة الحقيقية والخيرات الحقيقية الموجودة في هذه المنظومة فلن يكون لها هذا التأثير لكن الكلام في البعد عن الإفراط والتفريط وإيجاد المنظومة العقلية السليمة وهذا بحث يطول الكلام فيه.

فالنتيجة على خلفية كل ذلك وجد جماعة من الماديين المنتمين إلى حقول مختلفة من العلوم المعتمدة بضرور التوجه نحو سد النقص في المنظومة المادية وإعلان المواجهة المباشرة مع المنظومة اللاهوتية فكان مع بداية هذا القرن إعلان قيام ما بات يسمى بالإلحاد الجديد وقد قضت هذه المرحلة أولا باعتبار المنظومة المادية ملبية لكل الحاجات الإنسانية وحاولوا أن يوجدوا البدائل كلها ويروجوا لها، وريتشارد دوكينز من الأشخاص الذين ركزوا عن معنى الحياة ودور العلم في معنى الحياة، حتى بعضهم في أحد المؤتمرات قال "أنه أنت في تنفسك تؤثر في ذرات العالم" فحتى أنت حينما تقوم بالتنفس فأنت لك دور إيجابي في هذا العالم، فإلى هذا الحد ذهبوا حتى يحاولوا أن يجدوا شيء يجعل لوجودك قيمة عالمية ولها دخل في هذا الوجود طالما أنهم نفوا كل شيء يتعلق ما بعد الموت.

 

يترتب على ذلك أن كل ما تم ذكره حول المهمات الثلاثة السابقة تم العمل عليه وإبرازه بإسلوب إعلامي وتوجيهه إلى عامة الناس بشكل يضم موجة ضخمة جداً بأساليب تقنية معاصرة فعّاله وفتّاكة فاجتاح الإعلام المادي مواقع التواصل الاجتماعي من محورين اثنين:

 

1- محور هجومي: يفرّغ الدين من الموثوقية العرفية والمرجعية العلمية والصلاحية السلوكية، على المستوى المعرفي فيقولوا لك انتم مقلدين فالعقل غير مستطيع وعلى مستوى العقائد فهي مخالفة للعلم وعلى مستوى عملي فهي مخالفة لمشهورات العصر ومخالفة للأخلاق وإلخ...

 

2- محور ارشادي: فهو ينقد ما عندك ويشير لك إلى النعيم، فيشير الى المنظومة المادية كبديل يشكل حسب تعبيرهم (الجنة الحقيقية) فهنا الجنة كما دأبوا على القول التي لا يحتاج بلوغها إلا قرار شخصي –وهذا أمر اشتغلوا عليه لأنهم يعرفون أن قرار الإلحاد قرار صعب، فألفوا العديد من الكتب بأنه كيف تأخذ هذا القرار وكيف تتعايش معه وكيف تتناسى كل ماضيك، وكيف تربي أولادك على الإلحاد حتى ما لا يعانوا مثل معاناتك- بإختيار الكف عن الاتباع وإغراق العقل كما يروجون كثيرا بالخرافة والإتباع الأعمى.

 

هذه النقطة هي أحد الأقنعة الزائفة بشكل واضح ، عندما اختزل كل الاديان وكل المذاهب وكل المنظومات اللاهوتية في سلوك عامة الناس وتدين عامة الناس أو تدين بعض المذاهب أو الإتجاهات، تضاف الى القناع الزائف والتدليس الذي تم من خلال تقديم العلم في مواجهة الدين والحال أن المنظومة المادية التي تقوم بالتحكم بالعلم حتى تظهره بالمظهر الموافق.

 

باختصار : لقد كان غرض هذه الحملة الجديدة سلب المنظومة اللاهوتية عامل القوة الذي جعلها قابلة للحياة الاجتماعية وهو قدرتها على التأثير في الجماهير وارتباطهم بها عاطفيا وتاريخياً، وهم يعرفون نتيجة الوضع السياسي الذي مر به عامة الناس الذي جعلهم لا يأخذوا أديانهم عن ...حتى عملية التبليغ في الأغلب خطابية، وهذه السنة أول مرة أسمع أنه صار هناك توجيه للمبلغين حتى يقوموا بتعديل الخطاب التبليغي في عاشوراء والإعتماد على المصادر الموثوقة والبعد عن القصص والحكايا والمنامات والخ.... وإلا هذا السائد ولا زال في كثير، هم يعرفون ذلك ومجتمعنا منهك فقط يرتبط عاطفيا وتاريخياً فاعتبروا أن الحملة الاعلامية الكبيرة كفيلة بكسره، مع توجيهها وقاموا بشن ولا زالوا بشن كل هذه الحملات، هذا فيما يتعلق بعرض المسير.

 

والنقطة الرئيسية قبل أن أنتهي أنه بعد هذه الإطلالة يتبين أنه المسألة ليست مجرد نقوض وشبهات تثار هنا وهناك على المسائل الدينية، المسألة أعمق من ذلك، وأنا لست في مقام التهويل لا، إذا أردنا نتكلم بشكل علمي بحت على المستوى المتيافيزيقي المعرفي فمنهجم التجريبي قابل للنقد ببساطة، لكن هل هذا النقد قابل للتصدير؟ كيف تصدره وتوصله لعامة الناس؟ هم يظهرون منهجهم التجريبي على أنه هو الواقع.

 

فالمسألة ليست فقط مسألة شبهات، على المستوى العلمي قادرين ببساطة أن نبرز بأن المنظومة المادية هي المسؤولة عن كل ذلك، على المستوى العملي قادرين بكل بساطة أن نبين ما يتعلق بها، ولكن الكلام أنه هم لم يقوموا فقط بعرض شبهات، المسألة أعمق من ذلك بكثير وتستند إلى إرث ضخم وعمل جاد وجهد كبير تم بذله طوال ثلاثة قرون، في تأسيس منهج معرفي بديل ومنظومة كاملة بديلة ودراسة كل ما يتعلق بالظاهرة الدينية في المجتمع الإنساني وكثيرين ذهبوا إلى الإلحاد بسبب هذا الأمر، وهو الذي ما تم عرضه بلباس علمي تحت علم الأنثروبولجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس بحيث أنه نحن ذهبنا ودرسنا كل الواقع الديني في كل الطوائف وفي كل القبائل وجمعناها وأعطينا النظرية العلمية، هذا الجهد كلفهم أموال وكلهم سنوات وعمل عقود وإلى الآن، أنت الآن تدرس بالحوزة حول النظريات الأصولية، في الجامعات الغربية وفي المعاهد المتخصصة بذلك تدرس عن النائيني وعن الآخوند وعن الأصفهاني وعن الأنصاري، تدرس وتطلع، تدرسك، تعرف عنك أكثر مما تعرف أنت عن نفسك، لم تقف مكتوفة الأيدي عملت واشتغلت، فبالتالي حتى تزيح هذه المنظومة، فأنت ما غرضك هل فقط أنت تقدم نقد؟ أو تحاول أن تغير مجتمعك وترجع تعطيه الحصانة –وهذا الأمر أتكلم عنه إذا صار في مجال فيما بعد- فالمسألة ليست مسألة شبهات ونقود وإنما المسألة أعمق من ذلك بكثير ولذلك يحق للمرء أن يسأل، لماذا نجحت المنظومة المادية في كل ذلك، هل هي فقط مسألة تزييف وخداع ومؤامرة وعمليات إغراء، هل هي فقط هكذا؟! أو لا، هناك مشكلة حقيقة أكبر من ذلك.

 

هذا تمام الكلام والحمدلله رب العالمين.

 

التالي